• 2022-07-18

في الحضِّ على تعلُّم العربية وإعراب القرآن وذم اللَّحن - 1

كان الهدف من نشوء علم العربية، وتأسيس قواعده، وشيوعه، والتأليف فيه منذ نهاية القرن الأول الهجري هو الحفاظ على اللغة، وفهْم مقاصدها؛ لفهْم معاني كتاب الله، واستيعاب مقاصد الشريعة، فنشِط العلماء - بهمة بالغة - في تصنيف كتب النحو والصرف، والبلاغة، وفقه اللغة، والأدب، وغيرها، يحدوهم في ذلك طلب الأجر والقربى إلى الله.
وقد أكدت هذه الحقيقة كثرة الروايات في توجيه المسلمين إلى تعلُّم العربية، والحرص على السلامة اللغوية. وفي المقابل تضافرت الروايات على ذم اللَّحن، والنفور منه، بل محاربته بشدة، وتخصيصه بمؤلفات كثيرة عُرِفت بكتب لحن العوام كما صنع الكسائي (المتوفى عام 189هـ)، وأبوبكر الزبيدي (المتوفى عام 215هـ)، وابن السِّكيت (المتوفى عام 244هـ) وغيرهم.
ولسوف نخصص القسم الأول من هذا المقال للحضِّ على تعلُّم العربية وإعراب القرآن الكريم، منذ فجر الإسلام، على أن يكون القسم الثاني منه لذم اللحن.
ولقد كثرُت الروايات في الحضِّ على تعلُّم العربية كثرة يصعب حصرها، تتصدرها فضائل إعراب القرآن الكريم. قال أبوبكر الأنباري (المتوفى عام 328هـ) في مقدمة كتابه (إيضاح الوقْف والابتداء في كتاب الله عز وجل): "وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه وتابعيهم رضي الله عنهم مِن تفضيل إعراب القرآن، والحضِّ على تعليمه، وذم اللحن وكراهيته، ما وجب به على قرَّاء القرآن أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلُّمه". ثم مضى يستشهد على مذهبه بطائفة من الروايات المختلفة مدعومة بأسانيدها.
فمن ذلك ما رواه أبوهريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه". وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنْ تعلّموا الفرائض والسنة واللحَن كما تَعَلَّمون القرآن". قال ابن الأنباري رحمه الله معلِّقاً على هذه الرواية: "وحدَّث يزيد بن هارون بهذا الحديث، فقيل له: ما اللحن؟ فقال: النحو". فهذا يدل على أهمية معرفة القواعد النحوية في فهْم القرآن الكريم، وضبْط قراءته؛ ذلك أن النحو يفسِّر المعاني. وقد وقف الزمخشري رحمه الله على تفسير هذه الرواية، فقال: "تعلَّموا الغريب واللحن؛ لأن في ذلك علمَ غريبِ القرآن ومعانيه ومعاني الحديث والسنة، ومن لم يعرفه لم يعرف أكثر السنن". وقال أبوعبيد في قول عمر: "تعلَّموا اللحن أي الخطأ في الكلام لتحترزوا منه".
وأما تفسير اللحن بأنه النحو؛ فهذا من باب دلالة اللحن على معنى الصواب؛ لأن اللحن حمَّال معنيين: أولهما: الخطأ، وهو المعنى الشائع المعروف، وثانيهما: الصواب، فهو من الأضداد كما نص عليه علماء اللغة، وهذا المعنى الثاني له شواهد كثيرة ذكرها اللغويون في كتب الأضداد بخاصة وفي المعاجم وكتب اللغة بعامة، لا يسع المقام لذكرها.
ومن الشواهد على ضرورة سلامة الأداء في قراءة كتاب الله، وأهمية الحرص على إعرابه ما رواه أبوبكر بن الأنباري عن أبيه القاسم بن بشار الأنباري رحمهما الله بسند متصل إلى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن قرأ القرآن فلم يُعرِبه وُكِّل به مَلك يكتب له - كما أُنزِل - بكل حرف عشر حسنات، فإنْ أعرب بعضه ولم يعرب بعضه وُكِّل به مَلكان يكتبان له بكل حرف عشرين حسنة، فإنْ أعربه (يعني كله) وُكِّل به أربعة أملاك يكتبون له بكل حرف سبعين حسنة". فمن ذا الذي يعزف عن سبعين حسنة؟!
وروى ابن الأنباري عن أبيه أيضا بسند متصل إلى ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جرِّدوا القرآن، وزيِّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه؛ فإنه عربي، والله يحب أن يعرب". وعن أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه "قال: لِأنْ أُعرِب آية من القرآن أحبُّ إليَّ مِن أنْ أحفظ آية". ورويَ أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يضرب بَنِيه على اللحن، وأنه كان يقول: "أعربوا القرآن".
وعن مجاهد أنه كرِه اللحن في القرآن. وعن ابن مسعود أنه قال: أعربوا القرآن؛ فإنه عربي.
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ "مُرْ مَن قِبَلِك بتعلُّم العربية؛ فإنها تدل على صواب الكلام، ومُرْهم برواية الشعر؛ فإنه يدل على معالي الأخلاق".
إن مِثْل هذه الروايات وغيرها كثير، وكلها في الحض على تعلُّم العربية، وإعراب القرآن، وذم اللحن فيه، وكراهيته، والحث على تجنبه مما يستوجب على المسلم تعلُّم العربية ما استطاع إلى تعلُّمها سبيلاً. ولقد اجتزأنا بهذا القدر لئلا يطول المقال.